فصل: تفسير الآيات رقم (71- 81)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ‏}‏ وإنما خص إجابة المضطر لأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ لأن رغبته أقوى وسؤاله أخضع‏.‏

الثاني‏:‏ لأن إجابته أعم وأعظم لأنها تتضمن كشف بلوى وإسداء نعمى‏.‏

‏{‏وَيَكْشِفُ السُّوءَ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون عن المضطر بإجابته‏.‏

الثاني‏:‏ عمن تولاه ألاَّ ينزل به‏.‏

وفي ‏{‏السُّوءَ‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الضر‏.‏

الثاني‏:‏ الجور، قاله الكلبي‏.‏

‏{‏وَيَجْعَلَكُمْ خُلَفَآءَ الأَرْضِ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدهما‏:‏ خلفاً من بعد خلف، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أولادكم خلفاء منكم، حكاه النقاش‏.‏

الثالث‏:‏ خلفاء من الكفار ينزلون أرضهم وطاعة الله بعد كفرهم، قاله الكلبي‏.‏

‏{‏قَلِيلاً مَّا تَذَكَرُونَ‏}‏ أي ما أقل تذكركم لنعم الله عليكم

‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 64‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏63‏)‏ أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرَّ وَالْبَحْرِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يرشدكم من مسالك البر والبحر‏.‏

الثاني‏:‏ يخلصكم من أهوال البر والبحر، قاله السدي‏.‏

وفي ‏{‏الْبَرِّ وَالْبَحْرِ‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن البر الأرض والبحر الماء‏.‏

الثاني‏:‏ أن البر بادية الأعراب والبحر الأمصار والقرى، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ مبشرة، قاله ابن عباس وتأويل من قرأ بالباء‏.‏

الثاني‏:‏ منشرة، قاله السدي وهو تأويل من قرأ بالنون‏.‏

الثالث‏:‏ ملقحات، قاله يحيى بن سلام‏.‏

‏{‏بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ‏}‏ وهو المطر في قول الجميع‏.‏

‏{‏أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ أي عما أشرك المشركون به من الأوثان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 70‏]‏

‏{‏قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ‏(‏65‏)‏ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ‏(‏66‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ‏(‏67‏)‏ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏68‏)‏ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏69‏)‏ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ‏}‏ وفي صفة علمهم بهذه الصفة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها صفة ذم فعلى هذا في معناه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ غاب عليهم، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ لم يدرك علمهم، قاله ابن محيصن‏.‏

الثالث‏:‏ اضمحل علمهم، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ ضل علمهم وهو معنى قول قتادة‏.‏ فهذا تأويل من زعم أنها صفة ذم‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنها صفة حمد لعلمهم وإن كانوا مذمومين فعلى هذا في معناه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أدرك علمُهم، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ اجتمع علمهم، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ تلاحق علمهم، قاله ابن شجرة‏.‏

‏{‏فِي شَكٍّ مِّنْهَا‏}‏ يعني من الآخرة فمن جعل ما تقدم صفة ذمٍ لعلمهم جعل نقصان علمهم في الدنيا فلذلك أفضى بهم إلى الشك في الآخرة، ومن جعل ذلك صفة حمد لعلمهم جعل كمال علمهم في الآخرة فلم يمنع ذلك أن يكونوا في الدنيا على شك في الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 81‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏71‏)‏ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏72‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏74‏)‏ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏75‏)‏ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏76‏)‏ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏77‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ‏(‏78‏)‏ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ‏(‏79‏)‏ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ‏(‏80‏)‏ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏رَدِفَ لَكُم‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه اقترب لكم ودنا منكم، قاله ابن عباس وابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ أعجل لكم، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ تبعكم، قاله ابن شجرة ومنه رِدْف المرأة لأنه تبع لها من خلفها، قال أبو ذؤيبٍ‏:‏

عاد السواد بياضاً في مفارقه *** لا مرحباً ببياض الشيب إذ ردِفا

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يوم بدر‏.‏

الثاني‏:‏ عذاب القبر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ فيها ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن الغائبة القيامة، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ ما غاب عنهم من عذاب السماء والأرض، حكاه النقاش‏.‏

الثالث‏:‏ جميع ما أخفى الله عن خلقه وغيَّبه عنهم، حكاه ابن شجرة‏.‏

وفي ‏{‏كِتَابٍ مُّبِينٍ‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ اللوح المحفوظ‏.‏

الثاني‏:‏ القضاء المحتوم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ وجب الغضب عليهم، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ إذا حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ إذا لم يؤمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وجب السخط عليهم، قاله ابن عمر وأبو سعيد الخدري‏.‏

الرابع‏:‏ إذا نزل العذاب، حكاه الكلبي‏.‏

‏{‏أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ‏}‏ فيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما حكاه محمد بن كعب عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن الدابة فقال‏:‏ أما والله لها ذنب وإن لها للحية، وفي هذا القول إشارة إلى أنها من الإنس وإن لم يصرح‏.‏

الثاني‏:‏ وهو قول الجمهور أنها دابة من دواب الأرض، واختلف من قال بهذا في صفتهاعلى ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها دابة ذات زغب وريش لها أربع قوائم، قاله ابن عباس‏:‏

الثاني‏:‏ أنها دابة ذات وبر تناغي السماء، قاله الشعبي‏.‏

القول الثالث‏:‏ أنها دابة رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير وأذنها أذن فيل وقرنها قرن آيِّل وعنقها عنق نعامة وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هر وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعاً تخرج معها عصا موسى وخاتم سليمان فتنكت في وجه المسلم بعصا موسى نكتة بيضاء وتنكت في وجه الكافر بخاتم سليمان فيسود وجهه، قاله ابن الزبير‏.‏

وفي قوله ‏{‏مِّنَ الأَرْضِ‏}‏ أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها تخرج من بعض أودية تهامة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ من صخرة من شعب أجياد، قاله ابن عمر‏.‏

الثالث‏:‏ من الصفا، قاله ابن مسعود‏.‏

الرابع‏:‏ من بحر سدوم، قاله ابن منبه‏.‏

وفي ‏{‏تُكَلِّمُهُمْ‏}‏ قراءتان‏:‏

الشاذة منهما‏:‏ ‏{‏تَسِمهُم‏}‏ بفتح التاء، وفي تأويلها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تسمهم في وجوههم بالبياض في وجه المؤمن، وبالسواد في وجه الكافر حتى يتنادى الناس في أسواقهم يا مؤمن يا كافر، وقد روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «تَخْرُجُ الدَّابَّهُ فَتَسِم الناسَ عَلَى خَرَاطِيمِهِم

»‏.‏ الثاني‏:‏ معناه تجرحهم وهذا مختص بالكافر والمنافق، وجرحه إظهار كفره ونفاقه ومنه جرح الشهود بالتفسيق، ويشبه أن يكون قول ابن عباس‏.‏

والقراءة الثانية‏:‏ وعليها الجمهور ‏{‏تُكَلِّمُهُمْ‏}‏ بضم التاء وكسر اللام من الكلام، وحكى قتادة أنها في بعض القراءة‏:‏ ‏{‏تُنَبِّئُهُمْ‏}‏ وحكى يحيى بن سلام أنها في بعض القراءة‏:‏ ‏{‏تُحَدِّثُهُمْ‏}‏‏.‏

وفي كلامها على هذا التأويل قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن كلامها ظهور الآيات منها من غير نطق ولا لفظ‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه كلام منطوق به‏.‏

فعلى هذا فيما تكلم به قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها تكلمهم بأن هذا مؤمن وهذا كافر‏.‏

الثاني‏:‏ تكلمهم بما قاله الله ‏{‏أَنَّ النَّاسَ كَانُواْ بِئَايَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ‏}‏ قاله ابن مسعود وعطاء‏.‏

وحكى ابن البيلماني عن ابن عمر أن الدابة تخرج ليلة جمع وهي ليلة النحر والناس يسيرون إلى منى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 86‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏83‏)‏ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏84‏)‏ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ ‏(‏85‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أَمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِئَايَتِنَا‏}‏ وهم كفارها المكذبون‏.‏ وفي قوله ‏{‏بَئَايَاتِنَا‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ جميع الرسل، وهو قول الأكثرين‏.‏

‏{‏فَهُمْ يُوزَعُونَ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يجمعون، قاله ابن شجرة‏.‏

الثاني‏:‏ يدفعون، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ يساقون، قاله ابن زيد والسدي، ومنه قول الشماخ‏.‏

وكم وزعنا من خميس جحفل *** وكم حبونا من رئيس مسحل

الرابع‏:‏ يُرَدُّ أولاهم على أُخراهم، قاله قتادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 90‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ‏(‏87‏)‏ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ‏(‏88‏)‏ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ ‏(‏89‏)‏ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ‏}‏ وهو يوم النشور من القبور وفيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن الصور جمع صورة، والنفخ فيها إعادة الأرواح إليها‏.‏

الثاني‏:‏ أنه شيء ينفخ فيه كالبوق يخرج منه صوت يحيا بن الموتى‏.‏

الثالث‏:‏ أنه مثل ضربه الله لإحياء الموتى في وقت واحد بخروجهم فيه كخروج الجيش إذا أُنذروا بنفخ البوق فاجتمعوا في الخروج وقتاً واحداً‏.‏

‏{‏فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ‏}‏ وفي هذا الفزع هنا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الإجابة والإسراع إلى النداء من قولك فزعت إليه من كذا إذا أسرعت إلى ندائه في معونتك قال الشاعر‏:‏

كنا إذا ما أتانا صارخٌ فزع *** كان الصراخ له قرع الظنابيب

فعلى هذا يكون ‏{‏إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ‏}‏ استثناء لهم من الإِجابة والإسراع إلى النار‏.‏

ويحتمل من أريد بهم وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ الملائكة الذين أخروا عن هذه النفخة‏.‏

والقول الثاني‏:‏ إن الفزع هنا هو الفزع المعهود من الخوف والحذر لأنهم أزعجوا من قبورهم ففزعوا وخافوا وهذا أشبه القولين فعلى هذا يكون قوله ‏{‏إِلاَّ مَن شَآءَ‏}‏ استثناء لهم من الخوف والفزع‏.‏

وفيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم الملائكة الذين يثبت الله قلوبهم، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم الشهداء‏.‏ روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم الشهداء ولولا هذا النص لكان الأنبياء بذلك أحق لأنهم لا يقصرون عن منازل الشهداء وإن كان في هذا النص تنبيه عليهم‏.‏ وقيل إن إسرافيل هو النافخ في الصور‏.‏

‏{‏وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ راغمين، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ صاغرين، قاله ابن عباس وقتادة ويكون المراد بقوله ‏{‏وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ‏}‏ من فزع ومن استثني من الفزع بقوله ‏{‏إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ‏}‏ وهذا يكون في النفخة الثانية، والفزع بالنفخة الأولى، وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ عَاماً

»‏.‏ قوله ‏{‏وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً‏}‏ أي واقفة‏.‏

‏{‏وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ‏}‏ أي لا يرى سيرها لبعد أطرافها كما لا يرى سير السحاب إذا انبسط لبعد أطرافه وهذا مثل، وفيم ضرب له ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه مثل ضربه الله تعالى للدنيا يظن الناظر إليها أنها واقفة كالجبال وهي آخذة بحظها من الزوال كالسحاب، قاله سهل بن عبد الله‏.‏

الثاني‏:‏ أنه مثل ضربه الله للإيمان، تحسبه ثابتاً في القلب وعمله صاعد إلى السماء‏.‏

الثالث‏:‏ أنه مثل للنفس عند خروج الروح والروح تسير إلى القدس‏.‏

‏{‏صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيئ‏}‏ أي فعل الله الذي أتقن كل شيء‏.‏ وفيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أحكم كل شيء، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أحصى، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أحسن، قاله السدي‏.‏

الرابع‏:‏ أوثق، واختلف فيها فقال الضحاك‏:‏ هي كلمة سريانية، وقال غيره‏:‏ هي عربية مأخوذ من إتقان الشيء إذا أحكم وأوثق، وأصلها من التقن وهو ما ثقل من الحوض من طينة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ‏}‏ فيها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها أداء الفرائض كلها‏.‏

الثاني‏:‏ أفضل منها لأنه يعطى بالحسنة عشراً، قاله زيد بن أسلم‏.‏

الثالث‏:‏ فله منها خير للثواب العائد عليه، قاله ابن عباس ومجاهد‏.‏

‏{‏وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ وهم من فزع يوم القيامة آمنون في الجنة‏.‏

الثاني‏:‏ وهم من فزع الموت في الدنيا آمنون في الآخرة‏.‏

‏{‏وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةٍ‏}‏ الشرك في قول ابن عباس وأبي هريرة

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 93‏]‏

‏{‏إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏91‏)‏ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ‏(‏92‏)‏ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدُ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدِةِ الَّذِي حَرَّمَهَا‏}‏ فيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ مكة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ مِنى، قاله أبو العالية، وتحريمها هو تعظيم حرمتها والكف عن صيدها وشجرها‏.‏

‏{‏وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ‏}‏ يعني ملك كل شيء مما أحله وحرمه فيحل منه ما شاء ويحرم منه ما شاء لأن للمالك أن يفعل في ملكه ما يشاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏سَيُرِيكُمْ ءَآيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يريكم في الآخرة فتعرفونها على ما قال في الدنيا، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ يريكم في الدنيا ما ترون من الآيات في السموات والأرض فتعرفونها أنها حق، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ من خير أو شر فلا بد أن يجازي عليه، والله أعلم‏.‏

سورة القصص

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏طسم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏4‏)‏ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ‏(‏5‏)‏ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ ببغيه في استعباد بني إسرائيل وقتل أولادهم، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ بكفره وادعاء الربوبية‏.‏

الثالث‏:‏ بملكه وسلطانه‏.‏

وهذه الأرض أرض مصر لأن فرعون ملك مصر، ولم يملك الأرض كلها، ومصر تسمى الأرض ولذلك قيل لبعض نواحيها الصعيد‏.‏

وفي علوه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ هو لظهوره في غلبته‏.‏

الثاني‏:‏ كبره وتجبره‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً‏}‏ أي فرقاً‏.‏ قاله قتادة‏:‏ فَرّق بين بني إسرائيل والقبط‏.‏

‏{‏يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ‏}‏ وهم بنو إسرائيل بالاستعباد بالأعمال القذرة‏.‏

‏{‏يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ‏}‏ قال السدي‏:‏ إن فرعون رأى في المنام أن ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل فسأل علماء قومه عن تأويله، فقالوا‏:‏ يخرج من هذا البلد رجل يكون على يده هلاك مصر، فأمر بذبح أبنائهم واستحياء نسائهم، وأسرع الموت في شيوخ بني إسرائيل فقال القبط لفرعون‏:‏ إن شيوخ بني إسرائيل قد فنوا بالموت وصغارهم بالقتل فاستبقهم لعملنا وخدمتنا أن يستحيوا في عام ويقتلوا في عام فولد هارون في عام الاستحياء وموسى في عام القتل‏.‏ وطال بفرعون العمر حتى حكى النقاش أنه عاش أربعمائة سنة وكان دميماً قصيراً‏.‏ وكان أول من خضب بالسواد‏.‏ وعاش موسى مائة وعشرين سنة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ استُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ‏}‏ فيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ بنو إسرائيل، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ يوسف وولده، قاله علي رضي الله عنه‏.‏

‏{‏وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمََّةً‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ ولاة الأمر، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ قادة متبوعين، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أنبياء لأن الأنبياء فيما بين موسى وعيسى كانوا من بني إسرائيل أولهم موسى وآخرهم عيسى وكان بينهما ألف نبي، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم بعد غرق فرعون سبَوا القبط فاستعبدوهم بعد أن كانوا عبيدهم فصاروا وارثين لهم، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم المالكون لأرض فرعون التي كانوا فيها مستضعفين‏.‏ والميراث زوال الملك عمن كان له إلى من صار إليه، ومنه قول عمرو بن كلثوم‏:‏

ورثنا مجد علقمة بن سيف *** أباح لنا حصون المجد دينا

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏7‏)‏ فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ‏(‏8‏)‏ وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه إلهام من الله قد قذفه في قلبها وليس بوحي نبوة، قاله ابن عباس وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه كان رؤيا منام، حكاه ابن عيسى‏.‏

الثالث‏:‏ أنه وحي من الله إليها مع الملائكة كوحيه إلى النبيين، حكاه قطرب‏.‏

‏{‏أَنْ أَرْضِعِيه‏}‏ قال مجاهد‏:‏ كان الوحي بالرضاع قبل الولادة، وقال غيره بعدها‏.‏

‏{‏فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ‏}‏ يعني القتل الذي أمر به فرعون في بني إسرائيل‏.‏

‏{‏فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ‏}‏ واليم‏:‏ البحر وهو النيل‏.‏

‏{‏وَلاَ تَخافِي‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا تخافي عليه الغرق، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ لا تخافي عليه الضيعة، قاله يحيى بن سلامة‏.‏

‏{‏وَلاَ تَحْزَنِي‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا تحزني على فراقه، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ لا تحزني أن يقتل، قال يحيى بن سلام‏.‏

فقيل‏:‏ إنها جعلته في تابوت طوله خمسة أشبار وعرضه خمسة أشبار وجعلت المفتاح مع التابوت وطرحته في البحر بعد أن أرضعته أربعة أشهر وقال آخرون ثمانية أشهر في حكاية الكلبي‏.‏ وحكي أنه لما فرغ النجار من صنعه التابوت أتى إلى فرعون يخبره فبعث معه من يأخذه فطمس الله على عينه وقلبه فلم يعرف الطريق فأيقن أنه المولود الذي تخوف فرعون منه فآمن من ذلك الوقت وهو مؤمن آل فرعون‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ فلما توارى عنها ندَّمها الشيطان وقالت في نفسها لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب أليّ من إلقائه بيدي إلى دواب البحر وحيتانه، فقال الله‏:‏ ‏{‏إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، حكى الأصمعي قال‏:‏ سمعت جارية أعرابية تنشد‏:‏

استغفر الله لذنبي كله *** قبلت إنساناً بغير حلّه

مثل الغزال ناعماً في دَله *** فانتصف الليل ولم أُصله

فقلت‏:‏ قاتلك الله ما أفصحك‏!‏ فقالت‏:‏ أوَيعد هذا فصاحة مع قوله تعالى ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين‏.‏

قوله ‏{‏فَالتْقَطَهُ ءَآلُ فِرْعَوْنَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه التقطه جواري امرأته حين خرجن لاستسقاء الماء فوجدن تابوته فحملنه إليها، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أن امرأة فرعون خرجت إلى البحر وكانت برصاء فوجدت تابوته فأخذته فبرئت من برصها فقالت‏:‏ هذا الصبي مبارك، قاله عبد الرحمن بن زيد‏.‏

‏{‏لِيَكُونَ لَهُمْ عَدوّاً وََحَزَناً‏}‏ أي ليكون لهم عَدُوّاً وحزناً في عاقبة أمره ولم يكن لهم في الحال عدوّاً ولا حزناً لأن امرأة فرعون فرحت به وأحبته حباً شديداً فذكر الحال بالمآل كما قال الشاعر‏:‏

وللمنايا تربي كل مرضعةٍ *** ودورنا لخراب الدهر نبنيها‏.‏

‏{‏وَقَالَتِ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ‏}‏ روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن أصحاب فرعون لما علموا بموسى جاءوا ليذبحوه فمنعتهم وجاءت به إلى فرعون وقالت‏:‏ قرة عين لي ولك‏.‏

‏{‏لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً‏}‏ فقال فرعون‏:‏ قرة عين لك فأما لي فلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَوْ أَقَرَّ فِرْعَونُ بِأَنَّهُ يَكُونُ لَهُ قُرَّةُ عَيْنٍ كَمَا أَقَرَّت امْرَأَتُهُ لَهَدَاهُ اللَّهُ بِهِ كَمَا هَدَاهَا وََلَكِنَّ اللَّهَ حَرَمَهُ ذلِكَ

» وفي قرة العين وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه بردها بالسرور مأخوذ من القر وهو البرد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه قر فيها دمعها فلم يخرج بالحزن مأخوذ من قر في المكان إذا أقام فيه‏.‏

‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ أنّ هلاكهم على يديه وفي زمانه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 13‏]‏

‏{‏وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏10‏)‏ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏11‏)‏ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ‏(‏12‏)‏ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مَوسَى فَارِغاً‏}‏ فيه ستة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ فارغاً من كل شيء إلا من ذكر موسى، قاله ابن عباس وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ فارغاً من وحينا بنسيانه، قاله الحسن وابن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ فارغاً من الحزن لعلمها أنه لم يغرق، قاله الأخفش‏.‏

الرابع‏:‏ معنى فارغاً أي نافراً، قاله العلاء بن زيد‏.‏

الخامس‏:‏ ناسياً، قاله اليزيدي‏.‏

السادس‏:‏ معناه والهاً، رواه ابن جبير‏.‏

وقرأ فضالة بن عبيد الأنصاري وهو صحابي‏:‏ ‏{‏وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَزِعاً‏}‏ من الفزع وفي قوله ‏{‏وَأَصْبَحَ‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها ألقته ليلاً فأصبح فؤادها فارغاً في النهار‏.‏

الثاني‏:‏ أنها ألقته نهاراً ومعنى أصبح أي صار، قال الشاعر‏:‏

مضى الخلفاء بالأمر الرشيد *** وأصبحت المدينة للوليد

‏{‏إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن تصيح عند إلقائه وا إبناه، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أن تقول لما حملت لإرضاعه وحضانته هو ابني، قاله السدي لأنه ضاق صدرها لما قيل هو ابن فرعون‏.‏

الثالث‏:‏ أن تبدي بالوحي، حكاه ابن عيسى‏.‏

‏{‏لَوْلاَ أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ بالإيمان، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ بالعصمة، قاله السدي‏.‏

‏{‏لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ قال السدي‏:‏ قد كانت من المؤمنين ولكن لتكون من المصدقين بأنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ‏}‏ أي استعلمي خبره وتتبّعي أثره‏.‏

قال الضحاك، واسم أخته كلثمة‏.‏

‏{‏فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ‏}‏ وفيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ عن جانب، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ عن بعد، قاله مجاهد ومنه الأجنبي قال علقمة بن عبدة‏:‏

فلا تحرمنّي نائلاً عن جنابةٍ *** فإني امرؤ وسط القباب غريب

الثاني‏:‏ عن شوق، حكاه أبوعمرو بن العلاء وذكر أنها لغة جذام يقولون جنبت إليك ‏[‏أي اشتقت‏]‏‏.‏

‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ أنها أخته لأنها كانت تمشي على ساحل البحر حتى رأتهم قد أخذوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لا يؤتى بمرضعة فيقبلها وهذا تحريم منع لا تحريم شرع كما قال امرؤ القيس‏:‏

جالت لتصرعني فقلت لها اقصِري *** إني امرؤ صرعي عليك حرام

أي ممتنع‏:‏

‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ أي من قبل مجيء أخته وفي قوله‏:‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما ذكرناه‏.‏

الثاني‏:‏ من قبل ردّه إلى أمه‏.‏

‏{‏فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ‏}‏ الآية‏.‏ وهذا قول أخته لهم حين رأته لا يقبل المراضع فقالوا لها عند قولها لهم‏:‏

‏{‏وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ‏}‏ وما يُدْريك‏؟‏ لعلك تعرفين أهله، فقالت‏:‏ لا ولكنهم يحرصون على مسرة الملك ويرغبون في ظئره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمَّهِ‏}‏ قال ابن عباس انطلقت أخته إلى أمه فأخبرتها فجاءت فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصَّه حتى امتلأ جنباه رياً وانطلق بالبشرى إلى امرأة فرعون قد وجدنا لابنك ظئراً، قال أبو عمران الجوني‏:‏ وكان فرعون يعطي أم موسى في كل يوم ديناراً‏.‏

وروي أنه قال لأم موسى حين ارتضع منها‏:‏ كيف ارتضع منك ولم يرتضع من غيرك‏؟‏ فقالت‏:‏ لأني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أكاد أوتى بصبي إلا ارتضع مني‏.‏ فكان من لطف الله بموسى أن جعل إلقاء موسى في البحر وهو الهلاك سبباً لنجاته وسخر فرعون لتربيته وهو يقتل الخلق من بني إسرائيل لأجله وهو في بيته وتحت كنفه‏.‏

‏{‏وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكَ‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ‏}‏ يعني من قوم فرعون‏.‏

‏{‏لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يعلمون ما يراد بهم، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ لا يعملون مثل علمها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 17‏]‏

‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏14‏)‏ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏16‏)‏ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ‏}‏ فيه تسعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أربعون سنة، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أربع وثلاثون سنة، قاله سفيان‏.‏

الثالث‏:‏ ثلاث وثلاثون سنة، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ ثلاثون سنة، قاله السدي‏.‏

الخامس‏:‏ خمس وعشرون سنة، قاله عكرمة‏.‏

السادس‏:‏ عشرون سنة، حكاه يحيى بن سلام‏.‏

السابع‏:‏ ثماني عشرة سنة، قاله ابن جبير‏.‏

الثامن‏:‏ خمس عشرة سنة، قاله محمد بن قيس‏.‏

التاسع‏:‏ الحلم‏.‏ قاله ربيعة ومالك‏.‏

والأشد جمع واختلف هل له واحد أم لا، على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ لا واحد له، قاله أبو عبيدة‏.‏

الثاني‏:‏ له واحد وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ شد، قاله سيبويه‏.‏

الثاني‏:‏ شدة، قاله الكسائي‏.‏

‏{‏وَاسْتَوَى‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ اعتدال القوة، قاله ابن شجرة‏.‏

الثاني‏:‏ خروج اللحية، قاله ابن قتيبة‏.‏

الثالث‏:‏ انتهى شبابه، قاله ابن قتيبة‏.‏

الرابع‏:‏ أربعون سنة، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً‏}‏ في الحكم أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه العقل، قاله عكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ النبوة، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ القوة، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ الفقه، قاله ابن اسحاق‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَدَخَل الْمَدِينَةَ‏}‏ فيها ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها مصر، قاله ابن شجرة‏.‏

الثاني‏:‏ منف، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ عين الشمس، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏عَلَى حِينٍ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ نصف النهار والناس قائلون، قاله ابن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ ما بين المغرب والعشاء، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ يوم عيد لهم وهم في لهوهم، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ لأنهم غفلوا عن ذكره لبعد عهدهم به، حكاه ابن عيسى‏.‏

‏{‏فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ‏}‏ وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ من شيعته إسرائيلي ومن عدوه قبطي، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ من شيعته مسلم ومن عدوه كافر، قاله ابن إسحاق‏.‏

‏{‏فاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ‏}‏ حكى ابن سلام أن القبطي سخّر الإسرائيلي ليحمل له حطباً لمطبخ فرعون فأبى عليه فاستغاث بموسى‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ وكان خبازاً لفرعون ‏{‏فَوَكَزَهُ مُوسَى‏}‏ قال قتادة‏:‏ بعصاه وقال مجاهد‏:‏ بكفه أي دفعه، الوكز واللكز واحد والدفع‏.‏ قال رؤبة‏:‏

بعدد ذي عُدَّةٍ ووكز *** إلا أن الوكز في الصدر واللكز في الظهر‏.‏

فعل موسى ذلك وهو لا يريد قتله وانما يريد دفعه‏.‏

‏{‏فَقَضَى عَلَيهِ‏}‏ أي فقتله‏.‏

و‏{‏قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ‏}‏ أي من إغوائه‏.‏

‏{‏إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُّبِينٌ‏}‏ قال الحسن‏:‏ لم يكن يحل قتل الكافر يومئذٍ في تلك الحال لأنها كانت حال كف عن القتال‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ من المغفرة‏.‏

الثاني‏:‏ من الهداية‏.‏

‏{‏فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ‏}‏ أي عوناً‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ قال ذلك فابتلي لأن صاحبه الذي أعانه دل عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ‏(‏18‏)‏ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَصْبَحَ في الْمَدِينَةِ خَائِفَاً يَتَرَقَّبُ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ خائفاً من قتل النفس أن يؤخذ بها‏.‏

الثاني‏:‏ خائفاً من قومه‏.‏

الثالث‏:‏ خائفاً من الله‏.‏

‏{‏يََتَرَقَّبُ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يتلفت من الخوف، قاله ابن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ ينتظر‏.‏

وفيما ينتظر فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ ينتظر الطلب إذا قيل إن خوفه كان من قتل النفس‏.‏

الثاني‏:‏ ينتظر أن يسلمه قومه إذا قيل إن خوفه منهم‏.‏

الثالث‏:‏ ينتظر عقوبة الله إذا قيل إن خوفه كان منه‏.‏

‏{‏فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ‏}‏ يعني الإسرائيلي الذي كان قد خلصه بالأمس ووكز من أجله القبطي فقتله، استصرخه واستغاثه على رجل آخر من القبط خاصمه‏.‏

‏{‏قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه قال ذلك للإسرائيلي لأنه قد أغواه بالأمس حتى قتل من أجله رجلاً ويريد أن يغويه ثانية‏.‏

الثاني‏:‏ أنه قال ذلك للقبطي فظن الإسرائيلي أنه عناه فخافه، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏فلَمَّآ أَنْ أَرادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ وهو القبطي لأن موسى أخذته الرقة على الإسرائيلي فقال الإسرائيلي‏:‏

‏{‏قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الإسرائيلي رأى غضب موسى عليه وقوله إنك لغوي مبين، فخاف أن قتله فقال‏:‏ ‏{‏أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ‏}‏‏.‏

الثاني‏:‏ أن الإسرائيلي خاف أن يكون موسى يقتل القبطي فيقتل به الإسرائيلي فقال ذلك دفعاً لموسى عن قتله، قاله يحيى بن سلام‏:‏ قال يحيى‏:‏ وبلغني أن هذا الإسرائيلي هو السامري‏.‏

وخلى الإسرائيلي القبطي فانطلق القبطي وشاع أن المقتول بالأمس قتله موسى‏.‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلاَّ تَكُونَ جَبَّارا فِي الأَرْضِ‏}‏ قال السدي‏:‏ يعني قتالاً‏.‏

قال أبو عمران الجوني‏:‏ وآية الجبابرة القتل بغير ‏[‏حق‏]‏‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ لا يكون الإنسان جباراً حتى يقتل نفسين ‏[‏بغير حق‏]‏‏.‏

‏{‏وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المُصْلِحِينَ‏}‏ أي وما هكذا يكون الإصلاح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وََجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى‏}‏ قال الضحاك‏:‏ هو مؤمن آل فرعون‏.‏ وقال شعيب‏:‏ اسمه شمعون‏.‏ وقال محمد بن اسحاق‏:‏ شمعان‏.‏ وقال الضحاك والكلبي‏:‏ اسمه حزقيل بن شمعون‏.‏ قال الكلبي‏:‏ هوابن عم فرعون أخي أبيه‏.‏

‏{‏قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقتُلُوكَ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ يتشاورون في قتلك، قاله الكلبي، ومنه قول النمر بن تولب‏:‏

أرى الناس قد أحدثوا شيمة *** وفي كل حادثة يؤتمر

الثاني‏:‏ يأمر بعضهم بعضاً بقتلك ومنه قوله ‏{‏وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُم بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏ أي ليأمر بعضكم بعضاً وكقول امرئ القيس‏:‏

أحارِ بن عمرٍو كأني خَمِرْ *** ويعدو على المرء ما يأتمر

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏21‏)‏ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏22‏)‏ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ‏(‏23‏)‏ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ‏}‏ قال عكرمة‏:‏ عرضت لموسى أربع طرق فلم يدر أيتها يسلك‏.‏

‏{‏قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ‏}‏ وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه قال ذلك عند استواء الطرق فأخذ طريق مدين، قاله عكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه قال ذلك بعد أن اتخذ طريق مدين فقال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل أي قصد الطريق إلى مدين، قاله قتادة والسدي‏.‏ قال قتادة‏:‏ مدين ماء كان عليه قوم شعيب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لما خرج موسى من مصر إلى مدين وبينه وبينهما ثماني ليل ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر وخرج حافياً فما وصل إليها حتى وقع خف قدميه‏.‏

‏{‏وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ‏}‏ أي جماعة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ الأمة أربعون‏.‏

‏{‏يَسْقُونَ‏}‏ يعني غنمهم ومواشيهم‏.‏

‏{‏وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تحبسان، قاله قطرب، ومنه قول الشاعر‏:‏

أبيتُ على باب القوافي كأنما *** أذود بها سِرباً من الوحش نُزَّعا

الثاني‏:‏ تطردان‏.‏ قال الشاعر‏:‏

لقد سلبت عصاك بنو تميم *** فما تدري بأيِّ عصى تذود

وفيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهما تحبسان غنمهما عن الماء لضعفهما عن زحام الناس‏.‏ قاله أبو مالك والسدي‏.‏

الثاني‏:‏ أنهما تذودان الناس عن غنمهما، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ تمنعان غنمهما أن تختلط بغنم الناس، حكاه يحيى بن سلام‏.‏

‏{‏قَالَ مَا خَطْبَكُمَا‏}‏ أي ما شأنكما، وفي الخطب تضخيم الشيء ومنه الخطبة لأنها من الأمر المعظم‏.‏

‏{‏قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ‏}‏ والصدور الانصراف، ومنه الصّدر لأن التدبير يصدر عنه، والمصدر لأن الأفعال تصدر عنه‏.‏ والرعاء جمع راع‏.‏

وفي امتناعهما من السقي حتى يصدر الرعاء وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تصوناً عن الاختلاط بالرجال‏.‏

الثاني‏:‏ لضعفهما عن المزاحمة بماشيتهما‏.‏

‏{‏وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ‏}‏ وفي قولهما ذلك وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهما قالتا ذلك اعتذاراً إلى موسى عن معاناتهما سقي الغنم بأنفسهما‏.‏

الثاني‏:‏ قالتا ذلك ترقيقاً لموسى ليعاونهما‏.‏

‏{‏فَسَقَى لَهُمَا‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه زحم القوم عن الماء حتى أخرجهم عنه ثم سقى لهما، قاله ابن إسحاق‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أتى بئراً عليه صخرة لا يقلها من أهل مدين إلا عشرة فاقتلعها بنفسه وسقى لهما‏.‏ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ ولم يستق إلا ذنوباً واحداً حتى رويت الغنم‏.‏

‏{‏ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ‏}‏ قال السدي‏:‏ إلى ظل الشجرة وذكر أنها سَمْرة‏.‏

‏{‏فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ قال موسى ذلك وقد لصق بطنه بظهره من الجوع وهو فقير إلى شق تمرة ولو شاء إنسان لنظر إلى خضرة أمعائه من شدة الجوع‏.‏

قال الضحاك‏:‏ لأنه مكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً إلاّ بقل الأرض؛ فعرض لهما بحاله فقال ‏{‏رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ شبعة من طعام، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ شبعة يومين، قاله ابن جبير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 28‏]‏

‏{‏فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏25‏)‏ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ‏(‏26‏)‏ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏27‏)‏ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ فاستبكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حُفّلا بطاناً فقال لهما‏:‏ إن لكما اليوم لشأناً فأخبرتاه بما صنع موسى فأمر إحداهما أن تدعوه فجاءته تمشي على استحياء، وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه استتارها بكم درعها، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏

الثاني‏:‏ أنه بعدها من النداء، قاله الحسن‏.‏

وفي سبب استحيائها ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها دعته لتكافئه وكان الأجمل مكافأته من غير عناء‏.‏

الثاني‏:‏ لأنها كانت رسولة أبيها‏.‏

الثالث‏:‏ ما قاله عمر لأنها ليست بسلفع من النساء خَرَّاجة ولاّجة‏.‏

‏{‏قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ‏}‏ وفي أبيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه شعيب النبي عليه السلام‏.‏

الثاني‏:‏ أنه يثرون ابن أخي شعيب، قاله أبو عبيدة والكلبي‏.‏

وكان اسم التي دعت موسى وتزوجها‏:‏ صفوريا‏.‏ واسم الأخرى فيه قولان‏:‏

إحدهما‏:‏ ليا، قاله ابن اسحاق‏.‏

الثاني‏:‏ شرفا، قاله ابن جرير‏.‏

‏{‏لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا‏}‏ أي ليكافئك على ما سقيت لنا فمشت أمامه فوصف الريح عجيزتها فقال لها‏:‏ امشي خلفي ودليني على الطريق إن أخطأت‏.‏

‏{‏فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ‏}‏ أي أخبره بخبره مع آل فرعون‏.‏

‏{‏قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني أنه ليس لفرعون وقومه عليّ سلطان ولسنا في مملكته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَآ أَبَتِ أَسْتَأْجِرْهُ‏}‏ والقائلة هي التي دعته وهي الصغرى يعني استأجره لرعي الغنم‏.‏

‏{‏إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ القوي فيما ولي، الأمين فيما استودع، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ القوي في بدنه، الأمين في عفافه‏.‏ وروي أن أباها لما قالت له ذلك دخلته الغيرة فقال لها‏:‏ وما علمك بقوته وأمانته‏؟‏ قالت‏:‏ أما قوته فأنه كشف الصخرة التي على بئر آل فلان ولا يكشفها دون عشرة، وأما أمانته فإنه خلفني خلف ظهره حين مشى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ‏}‏ فروى عبد الرحمن بن زيد أن موسى قال‏:‏ فأيهما تريد أن تنكحني‏؟‏ قال‏:‏ التي دعتك، قال‏:‏ لا إلا أن تكون تريد ما دخل في نفسك عليها فقال‏:‏ هي عندي كذلك فزوجه وكانت الصغيرة واسمها صفوريا‏.‏

‏{‏عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حَجَجٍ‏}‏ يعني عمل ثماني حجج فأسقط ذكر العمل واقتصر على المدة لأنه مفهوم منها، والعمل رعي الغنم‏.‏

واختلف في هذه الثماني حجج على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها صداق المنكوحة‏.‏

الثاني‏:‏ أنها شرط الأب في إنكاحها إياه وليس بصداق‏.‏

‏{‏فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرَاً فَمِنْ عِنْدِكَ‏}‏ قال ابن عباس كانت على نبي الله موسى ثماني حجج واجبة وكانت سنتان عِدة منه فقضى الله عنه عِدته فأتمها عشراً‏.‏

‏{‏وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ من الصالحين في حسن الصحبة‏.‏ قاله ابن إسحاق‏.‏

الثاني‏:‏ فيما وعده به‏.‏

حكى يحيى بن سلام أنه جعل لموسى كل سخلة توضع على خلاف شبه أمها فأوحى الله إلىموسى أن ألق عصاك في الماء فولدت كلهن خلاف شبههن‏.‏ وقال غير يحيى‏:‏ بل جعل له كل بلقاء فولدن كلهن بُلْقاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ‏}‏ قال السدي‏:‏ لا سبيل عليّ‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ قول السدي‏:‏ شهيد‏.‏

الثاني‏:‏ حفيظ، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ رقيب، قاله ابن شجرة‏.‏

فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إِنَّ مُوسَى أَجَّرَ نَفْسَهُ بِعِفَّةِ فَرْجِهِ وَطُعْمَةِ بَطْنِهِ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ أَيُّ الأَجَلَيْنِ قَضَى‏؟‏ فَقَالَ أَبَرُّهُمَا وَأَوفَاهُمَا»‏.‏